لا يسعني في بداية كلمتي إلا أن أعرب عن عظيم شكري وامتناني لهذه الفرصة القيمة التي أتيحت لي للتحدث أمامكم خلال القمة العالمية للحكومات، أكبر تجمع حكومي سنوي عالمي، والشكر موصول لدولة الإمارات العربية المتحدة حكومة وشعباً على حسن التنظيم وكرم الضيافة.
بالأمس تحدث البروفيسور كلاوس شواب إلى القمة، وأوضح في معرض حديثه ما ينبغي لنا القيام به حتى نحقق أقصى استفادة ممكنة من "الجيل الرابع للعولمة". وقلنا بأننا بحاجة إلى تبني اتجاه مغاير، وألا نتهاون بعد الآن مع اللا مساواة وتخلف الكثيرين عن الركب. ونادينا بتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية. وبصفتي المدير العام لمنظمة عالمية ساندت عبر مسيرة مئة عام جهود تعزيز العدالة الاجتماعية باعتبارها الضمان الأكيد لأن يعم السلام العالم دوماً، ومن الطبيعي أن أتفق مع هذا الزخم وتلك الأفكار التي أؤمن بكونها نبراس صياغة مستقبل العمل بوجه خاص.
وأود أن أنوه إلى أننا نتحدث اليوم عن "الجيل الرابع للعولمة" باعتباره نتاج طبيعي وحتمي للثورة الصناعية الرابعة، أو ما يطلق عليه "الثورة التكنولوجية الرابعة" بدءاً من تحول العالم لقرية صغيرة وصولاً إلى التقدم التكنولوجي الهائل في مجال الأتمتة، وكأنما التكنولوجيا باتت توجه كل شيء، أو تكاد تفعل.
ولكنني أود التوضيح هنا إلى أن سجلات التاريخ لم تذكر أننا عايشنا أجيال العولمة الأول والثاني والثالث كنتيجة مباشرة للثورات الصناعية الثلاث الأولى. وبالتالي، ليس هناك من منطق يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الحال سيكون كذلك في المستقبل.
وهنا بيت القصيد.. فإن وقعنا في فخ ما يسمى بالحتمية التكنولوجية، فقد تفوتنا النقطة الحاسمة؛ ألا وهي أن مستقبل العمل يمكن بل يجب أن يكون نتيجة خطواتنا وتدخلاتنا البشرية. فإذا لم ندرك ذلك، فقد نخفق في التوصل إلى الحلول السليمة للتحديات التي تواجهنا، بل وربما نخفق بالأساس في طرح الأسئلة الصحيحة لتلك التحديات.
وبمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسها، تتبنى "منظمة العمل الدولية" مبادرة مستقبل العمل من خلال طرح هذين السؤالين الرئيسيين: ما هي طبيعة مستقبل العمل الذي نبتغيه؟ وكيف نحول هذا التصور إلى واقع؟
السيدات والسادة. في هذا السياق، نشرت اللجنة العالمية لمستقبل العمل، التابعة لمنظمة العمل الدولية، برئاسة مشتركة من فخامة السيد سيريل رامافوزا، رئيس جمهورية جنوب أفريقيا ودولة السيد ستيفان لوفين، رئيس وزراء السويد، في الشهر الماضي تقريرها السنوي، والذي أعتقد أنه مساهمة قيّمة في هذا النقاش المهم الذي لا بد وأن يسترعي انتباهكم.
وفي هذه الحقبة المتقلبة التي تعصف بها الشكوك والخوف على المستقبل بشكل عام، علاوة على وتيرة وتأثير التغيرات الحادة التي ربما نستشعرها من دون أن نفهم أغلبها، والتي تغذيها أيضا مشاعر عارمة هي نتاج الظلم وعدم المساواة والإقصاء، وخيبة أمل كبيرة إزاء الكفاءة الحقيقية لصناع السياسات لدينا وعجزهم عن تقديم مبادرات موثوقة، يبدو من الضروري أن نؤسس بكل وعي وعزم لمشروع سياسي واضح ينهض بمستقبل العمل.
ونحن سعداء بأن شرع المجتمع الدولي في هذه المهمة بالفعل؛ فهناك أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 والتي تحدد بوضوح أطر التنمية الشاملة، التوظيف والعمل، وتوفير العمل اللائق للجميع. وهو المستقبل الذي نريده.
وجسدت اللجنة العالمية لمنظمة العمل الدولية مضمون هذا المفهوم من خلال تحديد ما أسمته بالأجندة الإنسانية للنمو والتنمية، حيث الأولوية للبشر والعمل الذي يقومون به ليكون ذلك جوهر صنع السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولا شك بأن العمل المجدي يمثل جوهر التجربة البشرية لكل فرد منا. وإن كان لنا أن نفكر في الرفاه المادي والروحاني الذي يتأتى من الحصول على فرصة العمل اللائق، ونقارنه بالحرمان وتبدد المعنويات عند العجز عن نيل تلك الفرصة، وإذا اتفقنا على أن سعادة البشر ورفاههم هي الهدف الأسمى لسياساتنا، فمن المؤكد أن إعادة النظر في سياساتنا لتواكب واقع الجيل الرابع من العولمة باتت أمراً حتمياً.
أدرك أن هناك من يمكنه أن يعترض على حديثي لكونه يبدو فلسفياً إلى حد ما، وربما غامضاً ملتبساً. لكننا نلتقي في دولة تمتلك وزيرة للسعادة، ونراقب عن كثب وفي نطاق واسع تلك المتغيرات الاجتماعية التي يشهدها عالمنا اليوم، لذلك أثق في اعتقادي بأن هذا النهج يتعامل بالفعل مع الضرورات الصعبة والملحة لسياسات لحظتنا الراهنة.
إذاً، ما الذي تنطوي عليه أجندة العمل المتمحورة حول الإنسان. إنها تشتمل في جوهرها على ثلاثة مجالات للاستثمار، ويجب أن يكون أولها في الأفراد والكفاءات. لذلك، نركز هنا بوجه خاص على تمكين الأفراد من اجتياز موجة التحولات الرئيسية القادمة، انتقالاً إلى عالم العمل الرقمي، ومجموعة من أنظمة الإنتاج صديقة البيئة الخالية من الكربون، والانتقال إلى حياة عمل أطول يمكننا تخيلها معاً، وهو ما يعني أن على كل فرد أن يتكيف طوال مسيرته المهنية.
من هنا كان إيماننا بأن الحق في التعليم، المعترف به منذ أمد بعيد، بحاجة الآن إلى توسيع نطاقه والتأكيد عليه وأنه استحقاق يدوم مدى الحياة، مع تبني منظومة تتيح الفرصة أمام اكتساب المهارات والارتقاء بها وشحذها، بحيث تمثل جزءاً ثابتاً من حياتنا العملية.
وبالتالي، نحتاج إلى مزيد من الاستثمارات في أنظمة الحماية الاجتماعية. حيث يحتاج الناس إلى مظلة الحماية هذه منذ الطفولة إلى الشيخوخة، ليس لكونه حق فحسب، ولكن لأن توفير مثل هذه الحماية يعد من أهم محفزات التغيير، ويمكّن الأفراد من تبني التغيير بدلاً من مقاومته. وهذا تحد مهم على الطريق.
كما أن على الاستثمار في الثروة البشرية تناول مسألة المساواة بين الجنسين في الحقوق والمعاملة. وحقيقة الأمر أنه على الرغم من مجهودات دامت عقوداً عديدة، فما زالت المرأة تعاني من التمييز لجهة الأجور والمشاركة في العمل، وحان الوقت لتنفيذ أجندة تغيير حقيقية تكفل المساواة بين الجنسين.
نأتي إلى مجال الاستثمار الثاني، وهو الاستثمار فيما نسميه مؤسسات العمل. وأعتقد أننا جميعاً متفقين على مبدأ أن العمل ليس سلعة يمكن تداولها والمتاجرة بها، لأن العمل يعني بشراً يتمتعون بحقوق ولهم وجهات نظر واستحقاقات.
وإدراكاً لحقيقة أن العمل ليس سلعة، طبقنا على مدار عقود قوانين وقواعد وإجراءات وفرضنا تعهدات في أسواق العمل تكفل عدم إساءة معاملة العمال. ولكن بما أن طبيعة العمل تتحول بفضل التكنولوجيا على وجه الخصوص ومن خلال أشياء أخرى كذلك، ومع ظهور أنماط جديدة ومتنوعة من العمل، فإننا بحاجة إلى مؤسسات جديدة تكمل هذه المهمة بفعالية.
إن الحقائق على أرض الواقع تسبق حتماً قدرتنا على التصرف، ولكن ليس أمامنا سوى مواكبتها. ولهذه الأسباب، تقترح اللجنة العالمية فرض ضمانة عمالية شاملة وسارية على الجميع، بغض النظر عن وضعهم الوظيفي أو التعاقدي. فمن شأن هذا أن يحمي الحقوق الأساسية للعاملين، وأن يسهم في توفير أجر مناسب للجميع، مع تحديد ساعات العمل بحد أقصى، والتأكيد على أن السلامة والصحة المهنية حق من حقوق الإنسان، وهذا مهم عندما نعرف أن هناك 2.7 مليون إنسان يفقد حياته سنوياً بسبب ظروف وطبيعة العمل.
هذه ليست أبداً بالطموحات الجديدة، بل هي قديمة، ولكن زخم تحقيقها موضوعٌ على جدول أعمالنا اليوم. كما أننا بحاجة إلى الاستثمار المؤسساتي لمساعدة الأفراد على تحقيق توازن أفضل بين حياتهم المهنية وحياتهم الخاصة، وتوظف تقنيات حديثة خيارات جديدة للغاية لهذا الغرض، ويجب أن يتم تسخيرها لتوسيع نطاق خيارات الفرد، وقد بلورنا هذا المفهوم في تقريرنا في سياق سيطرة العامل على وقته. ونعتقد كذلك أن علينا أن نولي اهتماماً خاصاً لمنصة ناشئة تتمثل في اقتصاد العمل الحر. وتنقسم الآراء اليوم حول ما إذا كان هذا الاقتصاد الجديد مجرد تقليعة أو صيحة سرعان ما تنتهي، أم أنه مقدمة لنمط عام دائم من أنماط العمل مستقبلاً.
وأياً كان الرأي، فإن عدم كفاية تدابيرنا وتنظيماتنا القائمة أمر غني عن البيان.
أما المجال الثالث والأخير من مجالات الاستثمار فهو الاستثمار في وظائف المستقبل.
إننا يا صاحب السمو [بعد دخول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي "رعاه الله"] نعيش في عصر تشوبه المخاوف من ندرة الوظائف في مجتمعاتنا. فعلينا تحديد القطاعات الإنتاجية التي تبشر بتوفير فرص عمل كبيرة في المستقبل ومن ثم الاستثمار فيها. ولذلك أهمية استراتيجية واضحة. وبينما تواجه كل دولة ظروفاً مختلفة، فمن الواضح أن هناك مجالات لها أهمية بالغة، ولسوف أسردها: الاقتصاد الأخضر، الوظائف التي سوف تنجم عن الانتقال إلى مستقبل مستدام بيئياً؛ واقتصاد الرعاية، الذي يكتسب اليوم أهمية كبيرة في ظل وجود شرائح متنامية من كبار السن في مجتمعاتنا وشرائح أخرى من صغار السن المحتاجين إلى مزيد من الرعاية؛ وهناك أيضاً الاقتصاد الريفي، والذي يغفل الكثيرون عن كونه يمثل نسبة كبيرة من سكان العالم الذين يعملون بحق؛ وعلينا أيضا الاستثمار في بنية تحتية مادية ورقمية ذات جودة عالية.
صاحب السمو، السيدات والسادة، تلك هي توصيات لجنتنا، لأجل العمل ونقلنا إلى مستقبل نتوق إليه نحن البشر ونرسم ملامحه ولا يفرضه علينا أحد. ولكنها توصيات ورؤية تستدعي التساؤل حول كيفية تحقيقها، وهنا لدينا ثلاث إجابات في هذا الصدد.
الأولى، لمواكبة الحاجة إلى مشاركة مختلف الأطراف المعنية على نطاق واسع في جميع مجالات تطوير السياسات ومزايا ذلك، فإننا ندرك تماماً أن تعزيز قدرة الحكومات على التفاعل مع جهات العمل والقطاع الخاص والعاملين، في سبيل إيجاد حلول متوازنة وتوافقية لتحديات العمل، يمكن أن يفتح الباب أمام تجديد "العقد الاجتماعي"؛ ذلك الاتفاق الضمني بين الشعب والمؤسسات حول تحديد ما هو عادل وما هو مشروع وما يريدونه لمستقبل حياتهم وبلدانهم. واعتقادنا هو أن القوة الجديدة لتلك العقود الاجتماعية [...] تبدو تحت ضغط في العديد من الحالات.
أما الثانية، فهي أن لجنتنا العالمية توصي باتباع الترتيبات اللازمة لتعزيز انسجام السياسات الدولية في العديد من المجالات ذات الصلة بالعمل. وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع فكر أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة للعام 2030، الذي يجري تفعيله في إطار إصلاح الأمم المتحدة. ولكننا نوصي بتوسيع نطاق هذا البحث بغية زيادة تماسك السياسات على المستوى الدولي، وبالأخص تعميق التعاون الدولي في مجالات العمل والتجارة والتمويل، وهو ما ينطوي على مشاركة منظمة العمل الدولية وتعاونها بشكل أعمق مع منظمة التجارة العالمية ومؤسستي بريتون وودز المتمثلتين في "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي".
وفي الختام، أصل إلى أهم ما في كل ذلك: التمويل. فمما لا شك فيه أن هذه أجندة طموحة، تستدعي الإرادة السياسية وتوفير الموارد المالية كذلك. وفي سبيل الإجابة عن مصدر تلك الموارد، نؤكد على الحاجة الماسة لحسن تسخير القدرات الإنتاجية، والموارد، ومقدرات القطاع الخاص. وإذا لم يتحقق ذلك، فلن يتحقق الكثير غيره. ومن خلال مواءمة حوافز وسلوكيات الكيانات التجارية وتحقيق هذه الأجندة، يمكننا تقديم مساهمات مهمة للغاية لأجل توفير الموارد لها. ولكن بالإضافة إلى هذا، وعلينا الاعتراف بذلك، فإن السياسات المالية، على الصعيدين الوطني والدولي، تحتاج أيضاً إلى مراجعة في ضوء تحديد الاحتياجات الاستثمارية. ولكن يجب أن ننظر لهذا الأمر في ضوء العبء المالي الثقيل الذي ينتج حتماً عن التقاعس عن المبادرة بالفعل والقصور عن إشراك الجميع بشكل بناء في مستقبل العمل الذي نريده جميعاً، وهو مستقبل يمنح البشر قياد التكنولوجيا، ويمنح لكل فرد كرامة العمل اللائق.
أنتهي إلى الإقرار، بصفتي على رأس منظمة تضم ما لا يقل عن 187 دولة عضو، ولا يقتصر الأمر على حكوماتها بل يشمل جهات العمل والعاملين في تلك الدول، بأننا عندما نتحدث عن مستقبل العمل، فإننا نتحدث بصيغة الجمع. والسبب؟ أننا في الوقت الذي نتشارك فيه العديد من الأهداف والقيم، فإننا ندرك أيضاً أن الظروف السائدة في دولنا الأعضاء تتفاوت إلى حد بعيد. المقدرات مختلفة والطموحات مختلفة، وعلينا أن نعي هذا التفاوت. وهنا في دبي، وفي دولة الإمارات عموماً، نقف أمام مثال لدولة تبنت نهجاً للمستقبل، رسمت فيه رؤية للمستقبل الذي يريده شعبها، ويجري العمل على تحقيقها. ويمكننا أن نتعلم من هذا النموذج وأن نستفيد منه، ونأمل، في المقابل، أن يتمكن المجتمع الدولي ومنظمة العمل الدولية من تقديم أفكار ووجهات نظر للمستقبل أيضاً.
ختاماً، وسعياً لصياغة مستقبل العمل الذي ننشده، وهو في نهاية المطاف مستقبل للمجتمعات كافة، فإننا نمتلك كل ما يتيح لنا الاستفادة من تعاون الأسرة الدولية مع بعضها البعض لتحقيق أهدافنا.
شكراً لكم صاحب السمو والسيدات والسادة على حُسن إصغائكم.